الثلاثاء، 9 أكتوبر 2012

حكايات في صور





بالرغم من انني اخترت ارتداء الحجاب عندما كنت في السابعة عشرة من عمري معارضة بذلك رغبة والدي الذي كان يرى انني استعجل الامور و انني ينبغي علي ان أتروى قبل اتخاذ قرار كبير كهذا القرار, إلا انني شعرت بشيء ما بداخلي يدق بالأعماق حين رأيت صور هؤلاء الاطفال. أو كما تنطق صورهم هؤلاء النساء الصغيرات. لا أذكر شيء في كتاب الله او في سنة رسوله يحث على قتل الطفولة. أنا لا أعارض ديانتي حاشى لله ولا أعارض فروضها. لكني أعلم اننا نمتلك ايسر ديانة في تاريخ البشرية و أحن ديانة على البشرية. فلا أذكر شيئا عن تقييد الفتيات الصغيرات بقيود الديانة. و لي من العلم ما يكفي ليخبرني ان هؤلاء الفراشات الصغيرات لم يبلغن سن ارتداء الحجاب بعد. لا أقول هذا من داعي كرهي للحجاب فانا كما سبقت ذكرا محجبة و على اقتناع تام به. إلا انني أرفض القيود و أكره ان أرى  احلام البراءة تضيع في ركام الايام و أنا واقفة لا احرك ساكنا.
و بما انه ما بيدي حيلة سوى الكتابة لذلك قررت أن أكتب. و لأكون صريحة فقد واجهت صعوبة بالغة في ترجمة هذه الصور التي يكاد يلغي الالم ملامحها و تكاد تحجب صرخاتها الايقونات عن عيوني. و كأنني كنت أرفع عنها أكوام غبار من الإهمال و خيوط عذاب تربطهم من جميع الجهات. لم استطع ان ابتعد عن هذه الصور إلا و قد أكون قمت بشئ ما تجاه من يسكنها. أكاد اسمع اصوات ضفائر هؤلاء الفتيات الصغيرات و هي تصرخ بالله عليكم أريد ان أرى الشمس و استمتع بنسائم الصباح.  تلك العيون المكبلة بالقيود. حزن شديد يختزن في أعماق هذه المقل يحمل رائحة الصدى من شدة الاهمال. وجوه متسخة بالأتربة .
 لفتت انتباهي الفتاه في اول صورة و هي واقفة للمصور كمن يقف لشرطي, و تنظر للكاميرا بأعين يسكنها الخوف من والدها الذي يقف خلفها. ترى و لو لم يكن واقفا خلفها هل كنت لأشعر بيد الخوف تخرج من الصورة لتجذبني نحوها! و هذا ما جعل أفكاري تقودني لمكان بعيد حيث الأب. فيما كان يفكر؟ و هل كانت وقفته تهديدا لها؟ و كأن بوقوفه بجانب باب غرفة الصف يقول لا مفر لكي إلا من هنا.  كنت أتمنى لو أنني رأيت ملامح وجهه. هذا الفضول ينخر في زوايا دماغي الان. مما هي خائفة و لما كل هذا الصمت المعشعش في عيونها؟ لما تبدو واقفة بلا حراك و كأنها تخاف ان تخطو خطوة للأمام فتتعثر بنظرات والدها. أم ربما هي خائفة مما يخفيه في جيبه. أتساءل كم من العمر مضى على هاتين العينان و هما ترقدان في السبات الشتوي للاحياه. و كم من العمر مضى على هذا العنق المكبل بالقماش الابيض؟ و هذه المقاعد الدراسية خلفها. ثلاثة مقاعد. ثلاثة مراحل حياتية... ثلاثة كراسات رسمت عليها فراشات ملونة في الحقل تطير... ثلاثة أثواب تحلم بارتدائها بالعيد... ثلاثة أحذية بألوان زاهية تحتار عند ارتدائها... ثلاثة علب لطلاء اظافر يحمل نكهه ربيع قادم... ثلاث روايات رومانسية تحملها لأرض الاحلام... ثلاث لوحات جدارية تزين بها غرفتها... لا انتظر أجوبة. فالأشياء هنا تبدو بلا نهاية أو هكذا تقول الصورة!
للصورة الثانية حكاية ثانية.  استسلام, رضوخ, نهاية في الامل اللاأمل منه. تلك الكتب المدرسية و الاوراق المهترئة بين يداها الصغيرتين, كأنها تخشى عليهم من شيء ما. هل هناك أصعب من أن تستيقظ كل يوم وأنت تشعر بأن كل ما تحبه و ترغب به مهدد بالزوال في أي لحظة. الخوف من الحرمان و الفقدان يعزز عتمة الصورة. أتساءل أوصلت هذه الفتاة من العمر حد اليأس لترتدي لونا داكنا كهذا اللون.  للحظة بدأت ألوم الثوب. لو أنها كانت ترتدي ثوبا زاهي اللون لما شعرت أنا بالإحباط لهذه الدرجة. لكنه هو الثوب من منع اشعة الشمس الذهبية من غزل خيوطها السحرية لهذه الانسة الصغيرة!  هو الثوب من يحرمها متعة القراءة و الكتابة بشهية مفتوحة للعلم!  هو الثوب من قيد يديها!  هو الثوب من يهدد كتبها!  هو الثوب من يسكب الحيرة في عيناها!  كم وددت لو أمد يدي لداخل الصورة و اقتلعه عن جسدها الصغير و ألبسها غيمة بيضاء تحملها للسماء حيث الامان و الطمأنينة! لا أنتظر أجوبة. فالأشياء هنا تبدو بلا نهاية أو هكذا تقول الصورة!
للصورة الثالثة حكاية أخرى.  منذ نظرت للصورة وقعت عيناي على يد الفتاة الصغيرة. فورا ارتسمت في مخيلتي الصحراء القاحلة و جذور النباتات فيها التي تخرج من الارض من قلة الماء. و كأن يدها تتعطش لمياه الحرية  التي ستحررها من قيود المجتمع القاحل. أو لكأنها قد تعبت من تشبثها بالغطاء الابيض فوق رأسها خائفة من انزلاقه عن شعرها. كل هذه الافكار جعلتني أتساءل ماذا لو انزلق ذلك الغطاء فعلا؟  لا أنتظر أجوبة. فالأشياء هنا تبدو بلا نهاية أو هكذا تقول الصورة!
أما الصورة الأخيرة فهي ما أثارت غضبي. خيمة زرقاء بمقاس امرأة, أو هذا ما يبدو على الأقل. من الخارج تبدو الخيمة هادئة جدا لكنها من الداخل تحتوي على صرخات و جسد يتخبط في الزوايا من أجل الخروج.  تجلس على بضع درجات مكتفة يداها معلنة استسلامها الأبدي. لقد ألقت أبريق حياتها أرضا فأرتطم بالأرض و انكسر, و عندما أنكسر بلل ثيابها بما تبقى فيه من ماء صالح للحياة. ترى هل هي جميلة؟ عيناها تحملان لونا داكنا ام فاتحا؟ شعرها أهو ناعم أم مجعد؟ تمتلك بشرة سمراء أم شاحبة؟ لا يوجد فرق من وجهة نظري فجدار القماش أذاب ملامحها و عجنها بتفاصيله. ليست بحاجة لأن تكون شقراء او سمراء, ذات عينان داكنتان أو فاتحتان  بعد الآن. متخذة مكانا في أحدى الدرجات الثلاث. درجات الايام... درجات الحياه... درجات المجتمع ! لا أنتظر أجوبة. فالأشياء هنا تبدو بلا نهاية او هكذا تقول الصورة!

في كل صورة من هذه الصور حكاية و بعد كل حكاية أجد نفسي ملقاة في الزوايا المربعة ألملم ما تبقى من نفسي بعد أن تجولت داخل هذه الصور. لا أصعب من ظلم الإنسان لنفسه حين يظلم غيره من منطلق القوة. و لا أبشع من تعطيل عقولنا عن العمل و اعلان عبوديتنا لعادات من سبقونا راكعين لها على أقدامنا لنعلن لها الولاء التام. ولا أفظع من طمس ملامح الإنسانية بالمشاعر السوداء. فكم من الرائع سيكون الكون لو أننا ننسى كبريائنا للحظة و نعيد ترميم شروخ جدران الحياة في قلوب الملايين من البشر المدفونة بينما هي لاتزال على قيد الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق