الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

لأن الاشياء الجميلة يصعب وصفها. . .

   صيف 1999:
   لربما يعود إختياري لعام 1999 بالتحديد لأنه الأكثر رسوخاً في ذاكرتي عن باقي الاعوام التي سبقته من أعوام طفولتي، حيث كنت أبلغ من العمر التسعة أعوام. كما كانت تقول أمي أننا اعتدنا على قضاء الإجازة الصيفية في منزل جدتي، و أقصد هنا عائلة أمي. أذكر بأنني كنت استيقظ مبكراً جداً و كنت أنا من يستيقظ أولاً في أقاربي ممن يقاربوني سناً. أعتقد بأنني لطالما كنت أعاني من قلة النوم منذ صغري، و أعتقد أن هذه أول الجينات التي ظهرت معالمها علي شخصيتي و التي توارثتها عن والدي، حيث تقول أمي و من حولي أيضاً أنني لطالما كنت نسخة مصغرة عن شخصيته، و لكن بتغييرات بسيطة أو أكثر حداثة!
   كنت استيقظ في الصباح و أغادر السرير مباشرة الى الحديقة و التي كانت تحتوي في الواجهة على شجرة ياسمين كبيرة. كنت اسميها شجرة الياسمين العملاقة، لانها كانت تغطي السور بالكامل. بمجرد أن تبدأ خطواتك تجاه شجرة الياسمين حتى تبدأ رائحته المذهلة بإدخالك في عالم اللاوعي الصباحي. في كل مرة كان أنفي يصافح تلك الرائحة في الصباح ينبع من داخلي شعوراً ما بالسعادة، التفاؤل، أو أنني لا أعلم تماماً تسمية ذلك الشعور بالتحديد، فالأشياء الجميلة يصعب وصفها. هو شعور خاص بتلك الشجرة. لطالما قلت لأمي بأنني لا أريد مغادرة بيت جدتي و حين تسألني عن السبب كنت أجيبها، بأن الصباح في بيتها جميل. كل شئٍ هناك كان له نكهة مميزة خصوصاً في الصباح. رائحة حبات الرمل الندية، ذلك الشعور بالجو المبلل حين يلامس بشرتك. و ذلك الصوت الذي كنت اسمعه دائما ولا أعلم تماما أهو صوت طائر ما أو شئٌ مشابه. فالاشياء الجميلة يصعب وصفها. لكنه لطالما ارتبط في مخيلتي مع صورة شجرة الياسمين و دائما ما كان ذكرهم ينعش ذاكرتي و يضفي عليها رونقاً من سعادةً ما.
   عادةً ما تكون جدتي في ذلك الوقت جالسة في الحديقة تحت شجرة الياسمين تقرأ القرآن الكريم. و كنت دائمة المقاطعة لها بأسئلتي التي لا تنتهي. و كان من ضمنها سؤالي عن اسمي الذي طالما أعلنت كرهي له. و كانت دائماً ما تذكر تلك القصة عن مرضي حين كنت صغيرة و عن ذلك النداء الذي وجهته أمي لأطباء المشفى حتى ينقذوا طفلتها الصغيرة من الهلاك و التي لم يستطيعوا أن يختاروا اسماً لها بسبب الخلافات على الاسم و على الشخص الذي سوف يطلقه عليها. . . . رغم أنني أحفظ القصة عن ظهر قلب إلا انني استمتع في سماعها من أمي حتى الآن.
   بعد التأمل في الصباح كنت أقوم عادة بإيقاظ باقي أقاربي ببعض الضوضاء. كنا نكمل ملامح الصباح بالتسلق على سور الياسمين. عادة ما كنا نقوم بقطف زهرات الياسمين و تقطيعها الى اجزاء صغيرة حتى نصل إلى الرحيق، حيث كنا كالنحل نقوم بإمتصاصه. اذكر جيدا أنه كاد يكون جزاءاً من قطرة و لكنه كان لذيذ المذاق أو ممتعاً. لا أدرك بالتحديد! فالاشياء الجميلة يصعب وصفها.
   في كل مرة كنا نعود فيها إلى المنزل كنت أقوم بقطف مجموعة من أزهار الياسمين، حيث أضعها في كأس صغيرة بها ماء و أضعها في غرفتي. للياسمين قدرة عجيبة على هزم هواء غرفتي و السيطرة عليه مُهدياً إلى أنفاسي متعتة الطبيعة داخل جدران غرفتي. أعتقد بأن للأمر علاقة ما بهرمونات السعادة داخل جسدي. ارتباط الياسمين بشعور السعادة داخلي دائماً ما كان يشعل فتيل الحيرة داخلي.
   حين توفت جدتي، و أقصد هنا والدة أمي، بدأت شجرة الياسمين بالذبول و الضمور، حتى اختفت تماماً. حينها سألت أمي عن كونها مجرد صدفة أم أن شجرة الياسمين قد ذبلت حزناً على جدتي، و قد قالت يومها أمي أن الشجرة لم تحتمل فقدان مالكتها و التي طالمة أعتنت بها و قلمتها و أن الشجرة تفتقد ذلك الحنان الآن. يومها قلت لأمي حين أكبر و يصبح لي منزلي الخاص أريد أن أزرع شجرة ياسمين لتبكي عندما أموت. كان رد أمي كباقي الامهات بأنني لن أموت و كأنها من حبها لي تمنت لي الخلود رغم علمها بأن للموت علينا حق!
   لطالما استغل أبي حبي للياسمين أو للزهور البيضاء بالتحديد لكي يقوم بإرضائي بعد كل شجار.
   لا اذكر أنني حزنت على وفاة جدتي كثيراً، و أقصد والدة أمي، بالرغم من أنني فقدت وعيي تماماً في ذلك اليوم، حيث كنت ابلغ من العمر ستة عشر عاماً، و كانت هذه أول مرة أتعرض فيها لهبوطٍ في ضغط الدم. . .  سرعان ما تناسيت وجودها في حياتي لربما لأن ذكراها كانت مقترنة بالياسمين. ففي كل مرة أرى فيها ياسمينة تعود بي الأيام إلى ذلك النقاء و أعيشه بحذافيره في جزءٍ بسيط من الثانية.
   أما الآن و في هذا الوقت بالتحديد، حيث يفترض بأن أكون راقدةً في سباتٍ عميق، لا أعلم تماماً عن سبب كتابتي لهذه الخاطرة، عن شجرة الياسمين و جدتي بالتحديد. أعتقد بأنني أفتقدها. لا، أنا لا أفتقدها هي فقط! للأمر علاقة بشئ ما بداخلي يجعل لكل من ترك أثر داخل أعماقي، سواء كان جميلاً أم سئ، مكانةً ما داخل قلبي.
    في الحقيقة، يمتلك كبار السن رونقاً خاصة من حكمة و نقاء و سذاجة. أنا شخصياً أشعر بمتعة كبيرة جداً حين مجالسة أحدهم. و لربما هذا ما جعلني متعلقةً بكلتا جدتي. و لربما، و لذلك أنا دائما الحديث عنهم، و بالأخص الآن لأني أفتقدهم. افتقد للون الأبيض في حياتي. و للعيون البريئة ذات البريق. و لاشياء كثيرة لا أعلم ما هي بالتحديد. لأن الاشياء الجميلة يصعب وصفها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق