الثلاثاء، 3 مارس 2015

و نحنُ لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة

                                         
    
    يحدث أن تصالحنا الحياة لتعطينا كل شئٍ كنا نحلم به يوماً في وقتٍ واحد، و يحدث أن تفاجئنا و تسحب البساط الأحمر من تحت أقدامنا فجأة فلا نجد أنفسنا سوى أرضاً نستند على ركبتينا و نحاول بما تبقى فينا أن نثبت كي يكون بإمكاننا النهوض في وقتٍ لاحق. 
و يحدث أن تتلقى في وقت قصير أكبر عددٍ من الصفعات على كل أنحاء جسدك. في وقت قصير، تفقد أُناساً كانوا لقلبك الأقرب، تتحطم أحلامك على شواطئ قدميك دون أن تستطيع أن تُحٓرِكٓ ساكناً. و الأسوء أن تضحي بأجمل أيام حياتك من أجل أُناس، تعلم جيداً بأنك ستبقى ذلك الفرد الغريب بالنسبة لهم. و ستبقى دائم التساؤل في نفسك، هل هناك أي شعورٍ بالتقدير! 
    سألتني طبيبتي عن كوني سعيدة بأنني سأغادر غزة، فأحترت ما بين نعمٍ و لا. فعلاً استغربُ من نفسي كيف أخذ معي هذا السؤال البسيط كل هذه المدة الطويلة في التفكير. أجبتها بأنني أريد الرحيل بأسرع وقتٍ ممكن. فردت مستغربة أنه كيف بإمكاني أن اتخلى عن الأرض و المكان الذي نشأت فيه بهذه السهولة! 
أما أنا فكان ردي لكلامها منطقياً و عملياً، أجبتها بأنني أريد تأمين مستقبلاً لأطفالي و بأن سواء راتبي أو راتب زوجي في غزة، لن يكون كافياً لتوفير كل متطلبات أطفالنا و تعويضهم كل ما لم نستطع نحن تعويضه فيما مضى. ردت بأن بإمكان أطفالنا بأن يتأقلموا مع واقعنا كما فعلنا نحن، و بأن الوضع في غزة ليس بالسوء الذي أصفه. عندها طرحت عليها سؤالاً. 
- لو أعطيتِ أي طفلاً عادياً، من أي مكان في العالم ورقة و قلم و طلبتِ منه أن يقوم برسم أي شئ، ماذا تعتقدين سيرسم؟
- سيرسم وروداً و حقولاً و عصافير ملونة. 
- و لو أحضرتي ورقة و قلم بالمثل لطفلٍ من غزة، ماذا تتوقعين أن يرسم؟
- من الطبيعي أن يقوم برسم دبابة و جندي و بندقية و شهيد. 
- هذا ليس طبيعياً! في أي دولة أخرى، فإن طفلاً يرسم الموت بأقلامه، يُعرض على طبيبٍ نفسي. أنا لا أريد أطفالاً معقدين نفسياً. أريد طفلي أن ينشأ نشأة طبيعية.
- معكِ حق ! لكن على الأقل وجودنا هنا يمنحنا أجر الرباط. 
- هذا صحيح. أعتقد أن الفائدة الوحيدة من الحياة في غزة هي ضمان الآخرة.  
    حين خروجي من العيادة، تأملت المكان من حولي جيداً. وجوه المارين. زوايا الرصيف. أعمدة الشارع. حقاً ليست أجمل بقاع الأرض لكن شيئاً ما داخلنا يجذبنا هنا لنعشق تلك السماء و البائع المتجول على حافة الشارع. الطفل المتسول خارج العيادة. المرأة العجوز العائدة للمنزل محملةً بكمٍ هائلٍ من الأغراض لأحفادها و أولادها. البقالة و صاحبها العجوز الذي ينادي الماريين ليحتسوا الشاي معه. و بائع الخضار الذي يتشاجر مع زبونه بسبب غلاء بضاعته. السائق المتهور الذي كاد يصدم الصبي ذو الدراجة، محملاً كل اللوم على الصبي الصغير. الشاب الذي يحاول صعود عامود الكهرباء ليعلق شارة تنظيمٍ ما. أمي و سعادتها الهائلة بأول حفيدٍ لها. كلهم فجأة يصبحون لوحة فنية متحركة تتربع في رصيف الذاكرة فتغمض العين مثقلةً بدمعة حارقة و ابتسامة. . . أنا انتمي لهنا. لكن، سامحني يا هنا ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق